أخطر ما يواجه الحراك الشّعبي
تلازمت نشأة الدّول وتغيير الأنظمة السّياسية بتجذّر ظاهرة الثورات الشّعبية في عمق التاريخ الإنساني، وهي نتيجةٌ طبيعيةٌ للظلم والفساد والاستبداد، وحتمية مطّردة تتجاوب مع السُّنّة الإلهية والحقيقة النّصية في مثل قوله تعالى: “وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً، وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ.”(الأنبياء:11).
ولا يمكن الحديث عن أيِّ حراكٍ بأنّه مدٌّ ثوريٌّ حقيقيٌّ إلاّ إذا كانت له القدرة على إحداثِ نقلةٍ نوعيةٍ وتاريخيةٍ في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعوب، تقوده نخبةٌ قويّة، بمضمونٍ واضحٍ من الأهداف والأسس النظرية للتغيير، إذ لا ثورة بدون قيادة، ولا نهضة بدون رسالة.
وتكون هذه الثورات الشّعبية أكثر حضاريةً وسلميةً إذا اتسمت قيادتها بالعقلانية والواقعية، وإلاّ فإنّ الثورات غير المنظّمة غالبًا ما تنتهي بانقسامات حادّةٍ أو باستنساخ ديكتاتورياتٍ جديدة، إذ أنّه من عناصر نجاح أيِّ حراكٍ شعبي هو تكامل: الفكرة الخلاّقة المنبثقة من ضمير الشّعب، مع القيادة الجريئة والشجاعة، مع الوعيّ الجماهيريّ وطولِ النَّفَسٍ الممتدّ.
وبمقدار ما يجب الانتباه إلى خطورة الوقوع في فخّ التفكير والتفسير التآمري، بأنّ ثورات الرّبيع العربي حرّكتها قوى خفيّة: داخلية أو خارجية، فإنّ إعدام العامل الخارجي وإغفال تأثير مخالب الدولة العميقة، وتشابك العلاقات والمصالح والاتفاقات بينها، لا يمكّن من النظرة الكلية والتصوّر الشامل والقراءة الصحيحة لما وقع، إذ أنّ حادثةً معزولةً كحرق البوعزيزي نفسه في مدينةٍ داخليةٍ من تونس استطاعت أن تلهب الشارع العربي، وتفاجئ الجميع بهذا المدّ الثوري الجارف وهذه الهبّة الشعبية غير المتوقّعة.
إلاّ أنّ مِرَاسًا طويلا تميّزت به الدول الغربية في احتواء الثورات والحركات السياسية والاجتماعية الجذرية، لعبت فيه مراكز الدّراسات والأبحاث أدوارًا متقدّمة في تزويد الأنظمة الشمولية العربية بآليات ومناهج احتواء هذه الثورات وترويضها وإجهاضها.
ومع الاعتراف بفاعلية وقوة الرّدة على هذه الثورات الشعبية والسّلمية، عن طريق الاحتواء النّاعم أو الإلغاء العنيف، بأدوات الثورات المضادة والانقلابات العسكرية والتدخلات الأجنبية، لكَبْح جماح الطموحات الشعبية العريضة في التغيير، فإنّه من السّابق لأوانه الجزم بنجاح هذه التجربة أو فشلها، إذ تختلف سياقات كلّ تجربةٍ من بلدٍ إلى آخر، والتي تحتاج فيها الثورات الشّعبية إلى مُدَدٍ زمنية بعمر الدول لا بعمر الأفراد لاكتمالها أو تآكلها.
* ومن أخطر ما يواجه الثورات الشّعبية السّلمية هو شعورُ أحد الأطراف المعنيّة (النظام السياسي أو الحراك الشعبي) بالخطر الوجودي، المحكوم بغريزة حبّ البقاء، لعدم توفّر ضمانات الخروج الآمن لرموز النظام أو لعدم توفر إجراءات الطمأنة للشّعب في الانتقال الديمقراطي السّلس، فتصبح المعركة السياسية بين الطرفين هي معركةُ حياةٍ أو موت، فيتّجه الجميع إلى المعادلات الصفرية الإلغائية والحادّة، وإلى الإجراءات التصعيدية المتوترة، فيغيب فيها العقل الاستراتيجي ومنطق الدولة، قد تتبخّر أحلام التغيير السّلمي والانتقال السّلس للسّلطة معه، وقد يكلّف ذلك خسارةَ دورةٍ تاريخيةٍ من عمر التغيير وفق السّنن الاجتماعية، والتي قد تستغرق ما بين: 30 إلى: 40 سنة، وفق التقدير الإلهي لأعتى الأنظمة الشمولية والاستبدادية في تاريخ الإنسانية وهو النظام الفرعوني، بعدما كتب على بني إسرائيل دخول الأرض المقدّسة، وتلكُّئِهم بقولهم: “إنّ فيها قومًا جبّارين..”، قال عن عقوبتهم: “قال فإنّها محرّمةٌ عليهم، أربعين سنةً يتيهون في الأرض..”(المائدة:26)، وهو عمر جيلٍ بأكمله، في الدورة التاريخية للتغيير.
* ومن أخطر ما يواجه أيّ ثورةٍ شعبية – أيضًا – هو ترويضها واستدراجها إلى مربّع العنف، والانحراف بها عن أقوى درجات القوّة فيها، وهي: السّلمية، وهو المربّع الطبيعي للأنظمة في إيجاد مبرّرات الإجهاز على الحراك، والتصفية الجذرية له، عبر شرعية مكافحة العنف والإرهاب، وبالتالي ضمان نصاب البقاء من جديد، وإعادة استنساخ نفس النظام ولو بوجوهٍ جديدة من نفس المنظومة السّابقة.
* ومن أخطر ما يواجه الحراك الشعبي – أيضًا – هو إدخال الجميع في معارك التلهية، وإثارة النّعرات الشخصية أو الحزبية أو الإيديولوجية أو الطائفية أو العِرقية بين مكوّنات الحراك الشّعبي، وكأنّهم في وضعٍ يسمح لهم بالمنافسة الديمقراطية والنزيهة، وهم جميعًا ضحايا اختطاف الملعب الديمقراطي وجوّ الحريات، وهو ما رأيناه في التجربة المصرية، إذ كانت الثورةُ السّلميةُ شعبيةً عامّةً وقوية في ميدان التحرير، ولكنها تحوّلت إلى معركةٍ للاصطفاف الإيديولوجي بين “الإخوان المسلمين” وبين “التيارات المدنية” عندما تحوّل الحراك إلى اعتصامات “رابعة” و”النهضة”، ممّا مهّد الطريق للنظام الانقلابي للاستفراد بالإخوان، واغتيال أحلام ثورة 25 يناير، بنفس المنهجية السلطوية عبر التاريخ، والتي حَكَى القرآن الكريم طَرَفًا منها في قوله تعالى عن فرعون في التفرقة والاستفراد: “إنّ فرعون عَلاَ في الأرض، وجعل أهلها شِيَعًا، يستضعف طائفةً منهم..”(القصص:04).
* ومن أخطر ما يواجه هذا الحراك الشعبي – أيضًا – هو الخروج به من طابعه الشّعبي العام إلى لونٍ سياسيٍّ أو صبغةٍ إيديولوجية واحدة، وعادة ما تجتمع قلّة الخبرة الثورية للإسلاميين، الذين يتكوّنون على نمطٍ من الشخصية التنظيمية والسّمت الإيماني، مع انتشار بُعدهم الجغرافي وقوّتِهم التعبوية وقربهم من ضمير الشّعب، فيتم الاندفاع العاطفي إلى تصدّرهم للمشهد وقيادتهم للحراك، فيأخذ طابعًا إسلاميًّا، يثير الحفيظةً الإيديولوجيةً لشركاء الوطن في الثورة السّلمية وأشواق التغيير، ويعطي مبرّر الفزّاعة للتحريض الخارجي عليهم عبر تحالف القوى الإقليمية والدولية، المتوجّسة من أيّ تغييرٍ يهدّد مصالحهم، والمتخوّفة من أيّ جديدٍ يستفزّ نفوذهم.
* ومن أخطر ما يواجه الحراك الشّعبي – أيضًا – هو قدرة الأنظمة – باستغلال كلّ وسائل الدولة والتي يُفترض أنّها مِلْكٌ للشّعب وخادمةٌ له – على المناورة والالتفاف والقفز على المطالب الحقيقية للشّعب، عبر إجراءاتٍ ظرفيةٍ وتسكينية لامتصاص الغضب الجماهيري، وكسر الرّوح الثورية المتّقدة فيه، وإخراجه – مرّةً أخرى – من المعادلة، والذهاب إلى حواراتٍ وتفاهماتٍ وتسوياتٍ مع قوى تقليدية وغير تمثيلية، يتم استدراج سقفِ مطالبها العالية إلى الحدّ الأدنى الذي يجهض أشواق الشعوب في التغيير، ويضيّع الفرصة التاريخية لها في الحرّية والديمقراطية والكرامة الإنسانية.
إذ من شروط نجاح الحراك الشّعبي والوصول إلى المعنى الكامل للثورة الشّعبية: قوة الحسم في الخيارات والقرارت الثورية، وعدم التردّد فيها أو المساومة عليها، وأنّ المرحلة الانتقالية لا يمكن إدارتها بعقلياتٍ جامدة، أو بأدواتٍ تقليديةٍ سُكُونية، أو بآلياتٍ باليةٍ تذكّر بالعهد القديم.
إنّ النجاح في ذلك يتطلّب جهدًا فكريًّا وسياسيًّا للنّخبة المثقفة المتلاحمة مع الشّعب، يحوّل الشّعارات العريضة والمطالب العامّة للشّعب إلى خارطةِ طريقٍ إجرائية: دستورية وقانونية، تضمن التغيير، وتحافظ على كيان الدولة، وتلبّي أشواق الشّعب، في إطار ثوابت وهوية الأمّة، وبعيدًا عن أيّ تدخّلات خارجية، أو استنساخٍ لتجارب سابقة، أو استيرادٍ لثورات أخرى.
إنّ التغيير المنشود لا يتوقف عند مجرد تغيير النظام ورموزه وأدواته، بل بإحداث ثورةٍ على مستوى النفوس والعقول، يتحرّر فيها الجميع من رواسب الماضي، ومخلّفات النُّظُم الاستبدادية السابقة، وإعادة بناء الإنسان وتنظيم المجتمع وهيكلة المؤسسات من جديد.
إنّه تحدّي الانتقال من الثورة إلى الدولة.